الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)
.سنة إحدى وسبعين وستمائة: وفي يوم الإثنين خامس عشره: ركب السلطان إلى مصر، وركب في البحر ولعبت الشواني قدامه. وفي ليلة الأربعاء سابع عشره: جهز العسكر المجرد إلى الشام. وفي ليلة تاسع عشرة: توجه السلطان إلى الشام بمن حضر معه على البريد، فدخل قلعة دمشق ليلا. وفي صفر: قدمت رسل الملك أبغا ورسل الروم، فلم يحتفل بهم، وأمروا أن يضربوا جوكا قدام نائب حلب وقدام صاحب حماة. وكان مجيؤهم بأن يحضر سنقر الأشقر حتى يمشي في الصلح، ثم غيروا كلامهم وقالوا: يمشي السلطان أو من يكون بعده في المنزلة إلى أبغا لأجل الصلح فقال السلطان للرسل: بل أبغا إذا قصد الصلح يمشي هو فيه أو أحد من إخوته وأمر السلطان بلبس العساكر فلبسوا عدد الحرب ولعبوا في الميدان خارج دمشق، والرسل تشاهد ذلك، ثم سفروا في رابع ربيع الأول. وفيه تسلم السلطان سهيرن من سابق للدين وفخر الدين ولدي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس بعد موته، وكان هذا بوصيته لهما بذلك، فأمرهما السلطان وأحسن إليهما، وقدم أهلهما إلى دمشق. وفي خامس جمادى الأولى: ورد الخبر بنزول التتار على البيرة ونصبهم المجانيق عليها وإنهم قد حفظوا محاوض الفرات ونزلوا عليها، ليعوقوا من يصل إليهم. فجهز السلطان الأمير فخر الدين الحمصي بعدة من عسكر مصر والشام إلى جهة حارم، وجهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الرزبري في جماعة، ورحل هو من ظاهر دمشق في ثامن عشر جمادى الأولى، ومعه مراكب مفصلة محمولة. وجد للسلطان في المسير حق وصل إلى الفرات، فوجد التتار على الشط، فألقى المراكب التي حملها معه في الفرات وأشحنها بالمقاتلة، فتراموهم والتتار. واقتحم الأمير قلاوون الألفي الصالحي الفرات، فخاض ومعه عدة وافرة، وصدم التتار صدمة فرقهم بها ومزقهم، فألقت الأطلاب أنفسها في الفرات، وساقوا فيها عوما الفارس إلى جانب الفارس، وهم متماسكون بالأعنة ومجاديفهم ورماحهم، وعليهم وعلى خيولهم الحديد، وازدحموا في الماء، فكان لقعقعة السلاح وأمواج الماء هول مفزع وطلع السلطان في أولهم، وصلي في منزلة العدو ركعتين شكراً لله تعالي، وبث العساكر يميناً وشمالا، فقتلوا وأسروا عدداً كثيراً. وبات العسكر ليلة الإثنين، فورد الخبر بهزيمة التتار من البيرة مع مقدمهم درباي، وتركهم الأثقال والأزواد، وأن أهل البيرة أخذوا ذلك فتقووا به وأقام السلطان ينتظر من يلاقيه من التتار فلم يأت أحد، فعدي بجميع عساكره في الفرات كما فعلوا أول مرة ونزل بهم في ذلك ما لا يوصف من كثرة المشقة، وعظم الهول حتى طلعت العساكر إلى البر وسار السلطان إلى البيرة، وخلع على نائبها وأعطاه ألف دينار، وعم بالتشاريف والأنعام أهل البيرة، وفرق فيهم مائة ألف درهم فضة، وجرد هناك عدة من العسكر زيادة على من كان فيها، وسار إلى دمشق فدخلها في ثالث جمادى الآخر والأسري بين يديه. وخرج السلطان إلى مصر، فوصل قلعة الجبل في خامس عشريه، وأفرج عن الأمير عز الدين الدمياطي، وأنزله بدار الوزارة وأجري عليه الرواتب، ثم استدعاه وشرب معه القمز، وقد حضر أكابر الأمراء لذلك، فلما ناوله السلطان الهناب بيده وهو مملوء قال عز الدين: يا خوند لقد شبنا وشاب نبيذنا. وعم السلطان بالخلع الأمراء والوزراء والقضاة والمقدمين، وجهز رسل الملك منكوتمر ورسل الملك الأشكري ورسل الدعوة، فساروا في شعبان. وفي ثاني عشر شوال: قبض على الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى شيخ السلطان، وكان السلطان قد استدعاه إلى القلعة، وأحضر جماعة ليحاققوه على أشياء كبيرة بدت منه كاللواط والزنا وغيره، فأمر السلطان باعتقاله، وسجن بقلعة الجبل. وفي ثاني عشري ذي الحجة: استولي السلطان على بقية حصون الدعوة الإسماعيلية: وهي الدينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضي عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره. وفي هذه السنة: سار والي قوص من أسوان حتى قارب دنقلة من بلاد النوبة، وقتل وأسر ثم عاد. وفيها استولي السلطان على عامة مدن برقة وحصونها. وفيها حصل الاحتفال بأمر الشواني ونصب المجانيق على أسوار الإسكندرية، فكمل هناك نصب مائة منجنيق، وذلك لكثرة الإشاعة بحركة الفرنج لقصد ثغور ديار مصر. وفيها فتحت قلعة كينوك من بلاد الأرمن، على يد الأمير حسام الدين لاجين العنتابي. وفيها تنجزت عمارة صخرة بيت المقدس. وفيها نزل السلطان يعوم في النيل وهو لابس زردية مستبلة، وعمل بسطا كبيرة، وأركب فوقها الأمير حسام الدين الدوادار، والأمير علاء الدين أيدغدي الأستادار، وجرها وجر فرسين وهو يعوم لابس الزردية من البر إلى البر. .ومات في هذه السنة من الأعيان: وتوفي فخر الدين أبو محمد عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي، عن نحو ستين سنة بدمشق. وتوفي الأديب مخلص الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن قرناص الحموي. وتوفي الشريف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن رضوان الحسيني، الناسخ الكاتب المجود المؤرخ، عن تسع وستين سنة. .سنة اثنتين وسبعين وستمائة: وفيه وردت الأخبار بحركة الملك أبغا، فخرج السلطان من قلعة الجبل في ليلة سادس عشريه، ومعه الأمير سنقر الأشقر، والأمير بيسري، والأمير أنامش السعدي. فلما وصل السلطان عسقلان كتب إلى القاهرة بخروج العساكر جميعها والعربان من ديار مصر، صحبه الأمير بيليك الخازندار، ورسم بأن كل من في سائر مملكته له فرس فإنه يخرج إلى الغزاة، وأن تخرج كل قرية من قري الشام رجالة يركبون الخيل على قدر حالهم، ويقوم من بالقرية بكلفة من يتوجه، ودخل السلطان إلى دمشق في سابع عشر صفر. فخرج من عساكر مصر في حادي عشره عدة أربعة آلاف فارس، صحبة مقدميهم: وهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، وجمال الدين أقوش الرومي، وعلاء الدين قطليجا، وعلم الدين ططح. ثم خرج في ثامن عشره الأمير بيليك الخازندار بطائفة، فورد مرسوم السلطان على الأمير بيليك بالنزول قريبا من يافا، وعندما قارب عسكر مصر دمشق ركب السلطان من دمشق في نحو أربعين نفسا جرائد بغير ركيدار، وقد طلب العسكر وقارب المنزلة فاعترض السلطان العسكر، وكان قد تلثم هو وجماعته، فظنهم حجاب من بعض التركمان، فأمروهم بالترجل فأبوا، وساق السلطان بمفرده، وجاء خلف سناجق وحسر لثامه عن وجهه، فعرفه السلاح دارية، ودخل السلطان وساق في ركبه، فنزل الناس وقبلوا الأرض، وسار حتى نزل ورتب العسكر. وأصبح السلطان فركب في موكبه، وقضي أشغال الناس إلى أن أمسي، ثم ركب بمن حضر معه إلى دمشق، وأصبح راكبا في موكبه. وفي مدة غيبته كان الأمير سيف الدين الدوادار يرتب الأمور بدمشق، ويكتب الأجوبة على علائم فوق أوراق بيض. وفيه فر الأمير شمس الدين بهادر بن الملك فرج من التتار إلى السلطان بيبرس. وكان الملك فرج في أول أمره أمير طشت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وكان له سميساط، وبعد وفاة جلال الدين سلك قلعة كيران وعدة قلاع بناحية تقجوان ثم وصل الملك فرج هذا إلى بلاد السلاجقة الروم، فقطع بها ناحية أفصرا. وكان بهادر قد كاتب السلطان بيبرس وراسله وتقرب إليه بإعلامه بحقيق؛ أخبار العدو فعلم به التتار فأمسكوه وحملوه إلى الأردو، فهرب وحضر إلى البيرة، ووصل إلى دمشق وبها الملك الظاهر، فأكرمه وأعطاه بمصر إمرة عشرين فارسا. وخرج السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلع؛ الجبل في رابع عشري جمادى الآخرة. فتواترت الأخبار بحركة التتار، فرسم للأمير عيسي بن مهنا أمير العرب بالغارة، فأغار ووصل إلى الأنبار في ثامن عشر شعبان، فظن التتار أن السلطان قد قدم، فانهزموا إلى أبغا، فرجع إلى بلاده. وفي نصف شعبان: أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي. وفي شهر رمضان: رسم للعسكر بالتأهب للعب القبق ورمي النشاب، فيكب من كل عشرة فارسان في أحسن زيهم وقت الحرب، وركب السلطان في مماليكه ودخلوا في الطعن بالرماح، ثم أخذ السلطان الحلقة ورمى النشاب، وجعل لمن أصاب من الأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره، وقلسلقة والبحرية بغلطاق. فاستمر ذلك أياما، تارة يكون اللعب فيها بالرمح وتارة بالنشاب وتارة بالدبابيس، وفرق السلطان فيها من الخيل والبغالطق جملة. وساق السلطان يوما عادته في اللعب، وسل سيفه فسلت مماليكه سيوفها، وحمل هو ومماليكه الخواص حملة وحمل واحد واصطدموا، فكان منظرا مهولا، وأطلق السلطان من التشاريف ما عم به سائر من في خدمته: من ملك وأمير ووزير، ومقدمي الحلقة والبحرية، ومقدمي المماليك والمفردية، ومقدمي البيوتات السلطانية، وكل صاحب شغل وجميع الكتاب والقضاة، وسائر أرباب الوظائف. وفي يوم عيد الفطر: ختن الأمير نجم الدين خضر ابن السلطان وعده من أولاد الأمراء، وجري السلطان على عادته في عدم تكليف الناس، فلم يقبل من أحد هدية ولا تقدمة، ولم يبق من لا شمله إحسانه من سائر الطوائف، إلا المغاني وأرباب الملاهي فإنه لم تنفق لهم في طول أيامه سلع؛، ولا نالهم منه رزق ألبتة. وفي ثاني عشر شهر رمضان: سار الملك السعيد من قلعة الجبل في عدة من الأمراء جريدة إلى الشام، من غير أن يعلم به أحد، فدخل دمشق في سادس عشريه على حين غفلة من النائب، بحيث لم يشعر به العسكر إلا وهو بينهم في سوق الخيل، فقبلوا له الأرض، ودخل الملك السعيد إلى القلعة وأراد لعب القبق خارج دمشق، فمنعته كثرة الأمطار. وفي ليلة عيد الفطر: خلع الملك السعيد على أمراء الشام والمعكمين والمفاردة والأكابر، وخرج يتصيد بالمرج، وسار إلى الشقيف وصفد، وتوجه إلى القاهرة فوصل قلعة الجبل في حادي عشري شوال. وفي هذه السنة: كان بمصر وأريافها وباء، هلك فيه خلق كثير أكثرهم النساء والأطفال. وحصل في بلاد الرملة وبلاد القدس مرض وحميات، فقدم رجل نصراني إلى الأمير غرس الدين بن شاور والي الرملة، وقال له: هذه الآبار قد حاضت، كما جرى في السنة التي جاء فيها التتار فيها إلى الشام. وإن الفرنج بعثوا إلى قرية عابود في الجبل، وأخذوا من مالها وصبوه في الآبار فزال الوخم، وأشار بعمل ذلك فبعث والي الرملة إلى القرية المذكورة، وأخذ من مائها وصبه في الآبار التي بيافا، وكان الماء قد كثر فيها فنقصت إلى حدها المتعارف، وكتب إلىالسلطان بذلك وقيل له: إن هذه الآبار إناث تحيض، وآبار الجبل ذكور ومنها آبار قرية عابود المذكورة. وفيها ولي تقي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيي الرقي قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة محيي الدين محمد بن الأستاذ. .ومات في هذه السنة من الأعيان: ومات الأمير حسام الدين لاجين الأيدمري المعروف بالدرفيل، داودار السلطان. وتوفي قاضي حلب محيي الدين أبو المكارم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الشافعي بها، وقدقدم القاهرة ودرس بالمسرورية. وتوفي قاضي قضاة دمشق كمال الدين أبو الفتح عمر بن شداد بن علي التقايسي الشافعي، عن سبعين سنة بالقاهرة. وتوفي مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن القلانسي التميمي، خارج دمشق عن ثلاث وسبعين سنة بعد ما قدم القاهرة. وتوفي النحوي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني بدمشق، عن بضع وسبعين سنة. وتوفي تقي الدين أبو إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن أبي اليسر التنوخي المعوي، المحدث الأديب كاتب الإنشاء، عن ثلاث وثمانين سنة بدمشق. وتوفي المسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطف بن عبد المنعم بن علي بن نصر الحراني، مدرس دار الحديث الكاملية، عن خمس وثمانين سنة بالقاهرة وتوفي جمال الدين أبو عيسي عبد الله بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن علاقة الأنصاري، عن ست وثمانين سنة. وتوفي أبو عبد الله محمد بن سليمان الشاطبي بالإسكندرية، عن بضع وثمانين سنة ومات ببغداد العلامة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الإمام المشهور، في ذي الحجة. وقد خدم أولاد صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو وحظي عنده، وعمل له رصدا. بمراغة، وصنف، كتبا عديدة. وقد توفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة. .سنة ثالث وسبعين وستمائة: وفي ثامن صفر: توجه السلطان من قلعة الجبل، وسار إلى الكرك فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وكشف أحوال الشوبك، وعاد إلى قلعة الجبل ثاني عشري ربيع الأول. ثم توجه إلى العباسية ومعه الملك السعيد، فصرع الملك أوزة خبية. وقيل له: لمن تدعي فقال: لمن أدعو بحياته، ومن أتقرب إلى الله بدعواته، الذي حسبي افتخارا أن أقول والدي، ومن يتمرن لصرع أعدائه ساعدي، فقبله السلطان ووهبه من كل شيء. وفيها تحيل السلطان على استخلاص رؤساء الشمواني الذين أسروا بقبرص ميناء نمسون، وكان الفرنج لما كسرت الشواني على قبرص وأسروا من فيها، السلطان الأمير فخر الدين المقري الحاجب إلى صور لابتياع الأسري، فتغالى الفرنج الرؤساء وباعوا القواد والرماة لطائفة منهم، فغادوا بهم أسرى أطلقهم السلطان، وبقي الاحتفاظ على الرؤساء وهم ستة: منهم رئيس الإسكندرية ورئيس دمياط، فحبسوهم بعكا في قلعتها. فبعث السلطان إلىالأمير سيف الدين خطابا وهو بصفد يأمره بالتحيل في سرقتهم، فأرغب الموكلين بهم بالمال حتى وصل إليهم بمبارد ومناشير، وسرقوا من جب قلعة عكا، وساروا في مركب إلى خيل قد أعدت لهم، فركبوها ووصلوا إلى القاهرة. ولم يشعر بهم الفرنج حتى قدموا على السلطان، فكانت بعكا لأجلهم فتنة بين الفرنج. وقدم كتاب متملك الحبشة وهو الحطي يعني الخليفة، يخاطب السلطان فيه بعبارة: أقل المماليك يقبل الأرض وينهي، وسال فيه أن يجهز له مطران من عند البطرك، فأجيب. وسار السلطان إلى الإسكندرية، وأمر ببناء ما تهدم من المنار، وعاد إلى قلعته. وكتب السلطان بأن تخرج عساكر حلب للغارة، فخرجت وأغارت على بلاد سيس، وغنموا وقلعوا أبواب ربض مرعش. وفي ثالث شعبان: توجه السلطان من قلعة الجبل إلى الشام، فدخل دمشق في سلخه، وخرج منها في سابع رمضان فدخل حماة، ثم صار منها بالعساكر والعربان. وجرد السلطان عيسي بن مهنا، والأمير حسام الدين العنتابي، بعسكر إلى البيرة، وجهز الأمير قلاوون الألفي والأمير بيليك الخازندار، بعسكر إلى بلاد سيس، فساروا وهجموا النصيصة على الأرمن، وقتلوا من بها، وكانت المراكب قد حملت معهم على البغال وهي مفصلة، ليعدوا فيها من نهر جهان والنهر الأسود، فلم يحتج إليها. ووصل السلطان على الأثر بعد ما قطع بعساكره النهر الأسود وقاسوا مشقة، وملكوا الجبال وغنموا عنها ما لا يحصى كثرة، ما بين أبقار وجواميس وأغنام. فدخل السلطان إلى سيس وهو مطلب في تاسع عشريه وعيد بها، وانتهبها وهدم قصور التكفور ومناظره وبساتينه، وبعث إلى دربند الروم، فاحضر إليه من سبايا التتار عدة نساء وأولاد، وسير إلى طرسوس، فأحضر إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرا فأخذ مراكب، وقتل من كان فيها. وانبثت الغارات في الجبال، فقتلوا وأسروا وغنموا. وبعث السلطان إلى أياس بالعساكر، وكانت قد أخليت، فنهبوا وحرقوا وقتلوا جماعة، وكان قد فر من أهلها نحو الألفين ما بين فرنج وأرمن في مراكب، فغرقوا بأجمعهم في البحر، واجتمع من الغنائم ما لا يحصره قلم لكثرته، ووصلت العربان والعسكر إلى البيرة وساروا إلى عين تاب وغنموا، فانهزم التتار منهم وعادوا. فرحل السلطان من سيس إلى المصيصة من الدربند، فلما قطعه جعل الغنائم بمرج أنطاكية حتى ملأته طولا وعرضا، ووقف بنفسه حتى فرقها، ولم يترك صاحب سيف ولا قلم حتى أعطاه، ولم يأخذ لنفسه منها شيئا. فلما فرغ من القسمة سار إلى دمشق، فدخلها في النصف من ذي الحجة. وفيها ولي قضاء الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم، بعد وفاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الأذرعي. .ومات فيها من الأعيان: وتوفي أمين الدين أبو بكر محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن الخزوجي المحلي النحوي الأديب. وتوفي الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي الدمشقي المعروف باليغموري، بالمحلة من أعمال القاهرة، عن نيف وسبعين سنة. وتوفي الحافظ وجيه الدين أبو المظفر منصور بن مسلم بن منصور بن فتوح بن العماد الهمداني، الإسكندري الملكي المؤرخ، عن ست وستين سنة بالإسكندرية. .سنة أربع وسبعين وستمائة: وفي رابع عشريه: خرج الأمير بدر الدين الخازندار من دمشق لإحضار الملك السعيد، ومعه أولاد الأمراء، فوصل إلى قلعة الجبل وخرج بالملك السعيد على خيل البريد في سلخه، فوصل إلى دمشق في سادس صفر، وتلقاه السلطان ودخل به إلى قلعة دمشق. وفي صفر: هذا توجه السلطان أبو يوسف بن عبد الحق ملك المغرب لجهاد الفرنج، فقتل الطاغية في المعركة في نحو ستة آلاف، ولم يقتل من المسلمين إلا نحو ثلاثين رجلا وبلغت الغنائم من البقر مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وبلغ الأسرى سبعة آلاف أسير، وعجزت القدرة عن إحصاء الغنم، حتى أبيعت الشاة بدرهم، وحمل الكراع على أربعة عشر ألف وستمائة جمل. وفيها نبش عمال بني مرين قبور خلفاء الموحدين، وأخرجوا عبد المؤمن بن على وابنه يعقوب المنصور من قبريهما، وقطعت رأسهما، وضربت أعناق من كان بجبل تينتمل وصلبوا. بمراكش وأخذت أموالهم. وفيها بنيت فاس الجديد وصارت دار ملك بني مرين. وفي ثالث عشرى جمادى الأولى: أخذ السلطان القصير حصن أنطاكية وحمل أهله إلىالجهات التي قصدوها. وقدم الخبر بورود التتار إلىالبيرة، فجمع السلطان للعساكر وأنفق، وخرج من دمشق إلى حمص، فجاء الخبر برجوع التتار فعاد إلى دمشق. وفي هذه الأيام: اختلفت أمراء الروم على البرواناه، ففارقه جماعة من قيسارية، وقدم منهم إلى السلطان الأمير ضياء الدين محمود بن الخطير، والأمير سنان الدين موسى بن طرنطاي، ونظام الدين أخو مجد الدين الأتابك بعيالاتهم يريدون الانتماء إليه، فجهزهم السلطان إلى القاهرة، ثم إن محمود بن الخطير سعي بهم، فاعتقلوا بقلعة الجبل مدة ثم أطلقوا. وفي مستهل رجب: توجه السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في ثامن عشره، وقدمت هدية صاحب اليمن، ومن جملتها كركدن وفيل وحمار وحش عتابي، فسير السلطان إليه هدية مع رسله، وجهز السلطان هدية للملك منكوتمر مع الأمير عز الدين أيبك الفخري، وجهز رسل الأشكري، ورسل الملك الفنش ورسل جنوة. وفيها حضر ابن أخت ملك النوبة واسمه مشكد متظلما من داود ملك النوبة، فجرد السلطان معه الأمير آقسنقر الفارقاني، بعده من العسكر وأجناد الولاة والعربان، ومعه الزراقون والرماة ورجمال الحراريق والزردخاناه، فخرج في مستهل شعبان حتى عدي أسوان، وقاتل الملك داود ومن معه من السودان، فقاتلوه على النجب، وهزمهم وأسر منهم كثيراً. وبث الأمير آقسنقر الأمير عز الدين الأفرم، فأغار على قلعة الدقم، وقتل وسبي، ثم توجه الأمير سنقر في أثره يقتل وياسر حتى وصل إلى جريرة ميكاليل وهي رأس جنادل النوبة فقتل وأسر وأقر الأمير آقسنقر قمر الدولة صاحب الجبل وبيده نصف بلاد النوبة على ما بيده، ثم واقع الملك داود حتى أفني معظم رجماله قتلا وأسرا، وفر داود بنفسه في البحر وأسر أخوه شنكو، فساق العسكر خلفه ثلاثة أيام، والسيف يعمل فيمن هناك حتى دخلوا كلهم في الطاعة، وأسرت أم الملك داود وأخته. وأقيم مشكد في المملكة، وألبس التاج وأجلس في مكان داود، وقررت عليه القطعة في كل سنة وهي فيلة ثلاثة، وزرافات ثلاث، وفهود إناث خمس، وصهب جياد مائة، وأبقار جياد منتخبة مائة وقرر أن تكون البلاد مشاطرة، نصفها للسلطان ونصفها لعمارة البلاد وحفظها، وأن تكون بلاد العلى وبلاد الجبل للسلطان وهي قدر ربع بلاد النوبة لقربها من أسوان، وأن يحمل القطن والتمر مع الحقوق الجاري بها العادة من القديم وعرض عليهم الإسلام أو الجزية أو القتل فاختاروا الجزية، وأن يقوم كل منهم بدينار عينا في كل سنة. وعملت نسخة يمين بهذه الشروط، وحلف عليها مشكر وأكابر النوبة، وعملت أيضاً نسخة للرغبة بأنهم يطيعون نائب السلطان مادام طائعا، ويقومون بدينار عن كل بالغ. وخربت كنيسة سرس، التي كان يزعم داود أنها تحدثه بما يرديه، وأخذ ما فيها من الصلبان الذهب وغيرها، فجاءت مبلغ أربعة آلاف وستمائة وأربعين دينارا ونصف، وبلغت الأواني الفضة ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارا. وكان داود قد عمرها على أكتاف المسلمين الذين أسرهم من عيذاب وأسوان، وقرر على أقارب داود حمل ما خلفه من رقيق وقماش إلى السلطان، وأطلقت الأسري الذين كانوا بالنوبة من أهل عيذاب وأسوان، وردوا إلى أوطانهم. من العسكر من الرقيق شيئاً كثيراً، حتى أبيع كل رأس بثلاثة دراهم، وفضل بعد القتل والبيع عشرة آلاف نفس، وأقام العسكر. بمدينة دمقلة سبعة عشر يوما، وعادوا إلى القاهرة في خامس ذي الحجة بالأسرى والغنائم، فرسم السلطان للصاحب بهاء الدين بن حنا أن يستخدم عمالا على ما يستخرج من النوبة من الخراج والجزية بدمقلة وأعمالا، فعمل لذلك ديوان. وفي ثاني عشره: اجتمع القضاة والأمراء والأعيان بقلعة الجبل، وعقد للملك السعيد على غازية خاتون ابنه الأمير قلاوون الألفي، بوكالة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة عن الملك السعيد. فقبل العقد عن الأمير قلاوون الأمير آقسنقر الفارقاني، على صداق مبلغه خمسة آلاف دينار، المعجل منها ألفا دينار، وكتب الصداق بخط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وإنشائه، ومن جملته: هذا كتاب تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع الأنوار ومشارق الأنوار على تسطيره، وأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان وأغدق، وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل فقال الاعتراف هذا ما تصدق، وقال العرف هذا ما أصدق. وفيه شنق السلطان الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وكان قد تمكن منه تمكنا عظيما من أجل أنه شرب الخمر، وعلقه تحت قلعة الجبل. وعندما انقضي أمر العقد، ركب السلطان من يومه على الهجن في نفر يسير، وسار إلى الكرك فدخلها في ثالث عشريه، وهو يريد القبض على الأمير سابق الدين عبية، فلما بلغه حضور السلطان قدم عليه، فرعي له ذلك وزاد إقطاعه، ونظر السلطان في أمر أهل الكرك، وقطع أيدي ستة منهم اتهموا بأنهم قد عزموا على إثارة فتنة، ورتب رجالا بها عوضاً عمن كان فيها. وفيها أقام حجاج مصر بمكة ثمانية عشر يوما، وبالمدينة النبوية عشرة أيام، وهذا لم يعهد مثله. .ومات في هذه السنة من الأعيان: ومات الأمير حسام الدين قيماز الكافري، نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات. وتوفي سعد الدين أبو العباس الخضر بن التاج أبي محمد عبد الله بن العماد أبي الفتح عمر بن على بن محمد بن حمويه الجويني شيخ الشيوخ بدمشق، بها عن نيف وثمانين سنة. وتوفي تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابدين الحسين بن محمد بن على التميمي الصرخدي الحنفي، بدمشق عن ست وتسعين سنة. وتوفي زين الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جبريل، الإنشاء لقلعة الجبل في000. وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن على بن إسحاق بن على شيث الأموي. وتوفي الأديب أبو الحسن على بن أحمد بن العقيب العامري ببعلبك.
|